الدبكة الشعبية.. عيونٌ تُراقب وأقدام تتعلّم!
ينطلق صوت لأغنية وطنيّة فلسطينيّة داخل مُخيّم النازحين الكبير في قلب مدينة دير البلح. “عهد الله ما نرحل“، يصدحُ الصوت عاليًا، قبل الانتباه لما يحدُث في المكان. الرجال يتجمّعون، يجلسون على الكراسي قُرب خيمهم، في الساحة الكبيرة قُرب مدخل المُخيم، ينظرون إلى أطفالٍ أمسكوا بأيدي البعض، وبدأوا تعلّم شيءٍ جديد.
هذا الشيء الجديد، هو الدبكة الشعبية، جديدٌ بالنسبة لهم، لكنه قديم، ليسَ سوى واحدًا من أهمّ ملامح التُراث الشعبي الفلسطيني، الذي بقي على مدار أعوام رمزًا لتمسّك الفلسطينيين بتاريخهم وأرضهم، والآن صارَ نموذجًا لتمسّكهم بحقهم في الأرض، أمام موجات العدوان والنزوح التي فرضتها الحرب.
محمد الحويحي، 22 عامًا، نازح من مدينة بيت حانون في أقصى شمال قطاع غزّة، الرازح تحتَ القصف والإبادة والتهجير. يعيشُ الآن في مدينة دير البلح، في خيمة في منطقة “أم ضهير“، قرّرَ المُبادرة في يومٍ من الأيام، والمساعدة في تعليم الأطفال الدبكة الشعبية.
فكرة من الخيمة
التقطَ المُنتدى الاجتماعي التنموي SDF هذه المُبادرة، وساعدَ مُحمّد في تنفيذها في الميدان، في إطار مُبادرة “خيمة الأنشطة اللامنهجية“، التي جرى تنفيذ العديد من الأنشطة والمُبادرات الصغيرة من خلالها، في عدّة خيم ومساحاتٍ في محافظات قطاع غزّة.
كانت مشاركتي جميلة جدًا، أخذتني وأخذت الأطفال لأجواءٍ بعيدة عن كُلّ المُعاناة والظروف التي نمرُ فيها.
محمد الحويحي
يستلهمُ مُحمّد أفكاره من الواقع الذي يعيشه، وهكذا جاءت فكرة مُبادرة الدبكة، فيقول: “الفكرة بدأت في فترة سكني في أحد المخيمات، كنت شايف مدى حجم الحزن والتعاسة على وجوه الأطفال، وكمية حبهم للأنشطة الترفيهية وتعطشهم لأي نشاط مشابه، ذكرتُ لأحد أعضاء المنتدى معرفتي بالدبكة وتدريبي سابقًا في المراكز المجتمعية الثقافية في بيت حانون”.
عن دور المُنتدى الذي لم يتوانىَ عن استثمار الفكرة، يقول مُحمّد “بعدها تواصل معي طاقم المنتدى، وعرضَ أن أكون مدربًا لأطفال المُخيّمات، خصوصًا أنني عضو في شبكة شباب المُنتدى، ولدي معرفة في كيفية تنفيذ المُبادرة”.
يُضيف مُحمّد عن الاهتمام الذي لاقاه من فريق المُنتدى قائلًا: “بصراحة قد فاجئني مدى اهتمام طاقم المنتدى بطاقة الشباب لديهم ومحاولتهم خلق فرص لشبابهم. قدّم لي كُل اللوجستيات التي قد أحتاجها من سماعة لبثّ الأغاني والأناشد، ومايكروفون، وانترنت. كما سمح أن أُنفّذ الفكرة والحصص التدريبية في مُخيم عشان فلسطين 3، الذي أسّسه المُنتدى، بالإضافة لإبلاغ الأهالي بالفكرة والتوعية بأهميتها للأطفال”.
شارك في المُبادرة نحو 20 طفلًا، تلقّوا عددًا من الحصص التعليميّة كنشاط ترفيهي في البداية، ثُم انتقل التدريب إلى عددٍ مُركّز بلغَ 7 أطفال فقط، حيث جرى تدريبهم بشكلٍ مكثّف ومُركّز، على حركات الأغاني التي أتقنوها. حصصٌ مكثفة يتراوح عدد ساعاتها من بين ثلاثة إلى أربعة في كُلّ مرة، وفق قُدرة واستيعاب الأطفال.
يا ظريف الطول
أجرى مُحمّد المبادرة على مدار 12 يومًا مختلفة، قُسّمت إلى ثلاثة أيام في الأسبوع الواحد، ويقول:
بالبداية جمعت كل أطفال المخيم الذين أبدوا اهتمامًا بالتعلم والمشاركة في النشاط، ومن في سن مُناسبة للتجربة، بدأنا معًا كنشاطٍ ترفيهي بحركاتٍ بسيطة.
“وحدة ونص.. وشيل“، بدأ بهذه الحركات والكلمات، ثُم تدرّج معهُم بالحركات، إلى الأكثر صعوبة مثل “العسكر والغزال الخفيف والثقيل”.
الأيام الثلاث الأولى كانت تشملُ عددًا كبيرًا من الأطفال، وعلى الأغنية التراثية الشهيرة “يا ظريف الطول“، كانت الإنطلاقة. بدأ مُحمد بتقليص عدد الأطفال الحاضرين، معتمدًا على مدى التزامهم واجتهادهم، ومدى إبداء الرغبة بحُب التعلّم لهذه الفكرة المميّزة.
فرقة من سبعة أشخاص، خرجت من هذه الجهود، تُتقن الحركات، وقد تعلموا على أغانٍ فلسطينية دارجة بشكلٍ كبير، تصفُ معاناة شعبنا.
جو ترفيهي
يحكي مُحمد عن فكرة المبادرة وهدفه منها، قائلًا:
هدفي أخلق جو ترفيهي وتعليمي آمن للأطفال، ينتشلهم من هذه الظروف المأساوية التي نعيشها، وأيضًا تذكير الأطفال بتراثهم الفلسطيني وإدخاله إلى حياتهم بطريقة ممتعة، ومحاولة توفير مساحة لتعزيز روح التعاون والمشاركة بين الأطفال واسترجاعهم للقليل من طفولتهم.
الدبكة الفلسطينية أحد أهم الأنشطة التراثية والثقافية، يرى مُحمّد أنها “تُعزز الفلكلور الفلسطيني عن طريق الأغاني الشعبية الفلسطينية التي هي جزء من التراث، والذي يطمع ويحاول الاحتلال دائمًا به ويحاول سرقته ونسبته إليه“.
في ظلّ غياب التعليم وتدمير المدارس، يرى مُحمد أنه مع عدم وجود أي مساحة أو منصة تُتيح للأطفال اللعب وممارسة أنشطته وحياته، والتعرف على تراثه، فإن المبادرة فرصة كي يعرفوا أكثر عن هويتهم وتراثهم”.
ولا ينسى الحويحي أجواء التدريب التي ستبقى عالقةً في ذهنه إلى الأبد. أجواءٌ جميلة، ينتظر الأطفال موعد الحصة القادمة بفارغ الصبر، أهاليهم تعتلي وجوههم ابتسامة لمجرّد رؤية الأطفال سُعداء بهذا النشاط. اهتمام الأطفال بالحصص انعكس على أهل المُخيم بشكلٍ إيجابي وبطريقةٍ جيّدة. الكُل ينتظر ويُشاهد ويصفّق، وعلى النغم الفلسطيني يفتحُ عينيه وأُذنيه!