رحلة سماح مع الأمل.. من النزوح إلى دعم الأطفال في “المساحة التعليمية”
قبل أن تعصف الحرب بغزة، كانت حياة المُعلمة الثلاثينية سماح إسماعيل ابنة بلدة الزوايدة وسط القطاع، تسير على نحو هادئ، درست علم النفس، وعملت في المجال الذي أحبّته، وبنت مع زوجها حياةً صغيرة مليئة بالأمل، رغم سنوات الانتظار الطويلة التي تجاوزت الثماني قبل أن تبشَّر بالحمل الأول.
كانت سماح قد خطّطت لاستقبال مولودتها في منزلها الجديد، بعد أن بدأ زوجها أخيرًا يستقر بعمله كسائق على سيارة جديدة كانت بداية جهد سنوات طال انتظاره، لكن صباح السابع من أكتوبر غيّر كل شيء، كما تقول.
من النزوح إلى الميلاد
تخبرنا سماح بأن حياتها انقلب رأسًا على عقب، تحولت الحياة إلى مسلسل من النزوح والخوف والبحث عن مأوى آمن. مضيفة: “في البداية لم نتخيل أن الحرب ستطول، ظنناها أيامًا وسنعود، لكن القصف طال كل مكان، حتى لم نعد نعرف أين الأمان”.
نزحت مع عائلتها من الزوايدة إلى أكثر من منطقة. حملت ما استطاعت من احتياجات أساسية وبعض أوراقها، وتركت خلفها كل شيء، المنزل، الذكريات، الحارة، وأحلامًا لم تكتمل.
وفي قلب النزوح، كانت تعيش تجربة الحمل بكل ما تحمله من قلق وأمل، لكنها لم تكن تشبه أي تجربة أخرى؛ فكل حركة من الجنين كانت تختلط بأصوات الانفجارات من حولها.
وفي إحدى الليالي، ومع اشتداد القصف على المنطقة، بدأت آلام الولادة. تروي: “لم يكن الوصول إلى المستشفى أمرًا سهلًا، فالمواصلات شبه معدومة، والطرقات وعرة مليئة بالأنقاض”.
تنقلت سماح بصعوبة بين الخراب وتحت وطأة القصف الإسرائيلي حتى وصلت إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وهناك وضعت طفلتها بين أصوات الانفجارات وأصوات الأمهات المكلومات. تصف قائلةً: “كانت ليلة ولادة ونجاة في آن واحد، خرجت من غرفة العمليات وأنا لا أصدق أنني ما زلت على قيد الحياة، وأن طفلتي تنفّست أول أنفاسها وسط كل هذا الموت.”
تزيد المُعلمة بأن الحرب هذه لم تترك لها فرصة للراحة. بعد أيام فقط، اضطرت للنزوح مجددًا، تحمل طفلتها وقلقها، تبحث عن مكان أكثر أمانًا، ولم تكن سماح تفكر إلا في البقاء، كيف تؤمن الطعام والحليب لطفلتها الوحيدة، وكيف تستمر رغم كل شيء”.
بينما كانت تعيش على المساعدات القليلة التي تصل، أخذت تفكر في العودة إلى العمل. كانت تشعر أن ما تمرّ به من وجع نفسي ليس فرديًا، بل هو وجع جماعي يعيشه كل طفل وامرأة ونازح في القطاع.
من المعاناة إلى العمل
تعملُ سماح اليوم ضمن مشروع “شبكات شبابيّة من أجل التعليم ورفاهية الأطفال“، الذي ينفّذه المنتدى الاجتماعي التنموي بالشراكة مع “يونيسف“، حيث تُعد واحدةً من مختصات الدعم النفسي اللواتي يقفن جنبًا إلى جنب مع المُعلمات، في دعم الأطفال والبقاء بجانبهم لأيّ مُساعدة.

كانت قد أرسلت طلبها للوظيفة، بعد رؤية الإعلان عبرَ الانترنت، رغم انقطاع الاتصالات وصعوبة التنقل، حيث تأجلت المقابلة أكثر من مرة بسبب القصف، لكنها لم تفقد الأمل.
بعد أسابيع طويلة من الانتظار، جاءها اتصال غيّر مجرى حياتها-٠وفق تعبيرها-، حيث أبلغت بأنها حصلت على أعلى تقييم، وإنها ستبدأ العمل قريبًا، وعن شعورها هنا تتحدث: “بكيت من الفرح، شعرت أن الله كافأني بعد كل هذا الصبر”.
بدأت سماح عملها في المساحات التعليميّة التي أسسها المنتدى في دير البلح والبريج وخانيونس، فقد كان هدفها أن تزرع الأمان في نفوس الأطفال الذين عانوا من النزوح والدمار وفقدان الأهل.
في طريق البداية، لاحظت الأطفال خائفين من أي صوت، لا يتحدثون كثيرًا، وبعضهم يرسم مشاهد القصف والموت، ومع الوقت، بدأوا يضحكون ويلعبون، مشيرة: “كنت أشعر أن كل ضحكة منهم هي انتصار صغير على الحرب.”
واجهت سماح صعوبات لا تقل عن معاناة النزوح. كانت تسير أحيانًا لساعات للوصول إلى مكان العمل بسبب انعدام المواصلات، وتعود في المساء تحمل طفلتها ووجع الإرهاق.
كنا نعمل وسط الدمار وتحت القصف الإسرائيلي المتواصل، لكننا كنا نؤمن أننا نعيد بناء ما هو أهم من الحجر، وهو الإنسان … كنت أرى في عيون أطفالي وطلابي النازحين حولي الخوف نفسه الذي يسكنني، وقلت في نفسي: دوري كأخصائية نفسية لم ينتهِ بعد، بل بدأ الآن.
سماح إسماعيل، مدرسة في المساحات التعليميّة
الأمل لا يُقصف
بين جلسات الدعم النفسي والرسم واللعب، كانت تكتشف سماح قصصًا موجعة خلف كل طفل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تخبرنا عن طفلة فقدت أمها، وطفل يعيش في خيمة مع خمسة إخوة، وآخر لا يستطيع النوم بسبب أصوات القصف التي ما زالت عالقة في ذاكرته، قائلة “كنت أرى نفسي فيهم، وكلما ساعدت طفلًا على الابتسام، شعرت أنني أُعالج نفسي أيضًا”.

اللحظة التي لم تنسها كانت حين جاء أحد الأطفال في صباحٍ بارد وقال لها: صباح الخير يا مِس، اليوم حلمت إنو خلصت الحرب!” ابتسمت حينها، وبدأت يومها بجرعة أمل جديدة.
ورغم مرور عامين على الحرب، ما تزال سماح تواصل بصلابة تقديم الدعم للأطفال. تقول إنها اليوم أكثر وعيًا بقيمة الحياة وأكثر إصرارًا على الاستمرار، بل رفعت شعارًا مفاده “الأمل لا يُقصف ككل شيء قصفوه هنا، بل نحن نملك دائمًا القدرة على البدء من جديد وهذه قصة غزة باختصار”.
تحلم سماح بالسفر يومًا إلى مكانٍ آمن يضمن لطفلتها حياةً طبيعية، لكن قلبها يبقى معلّقًا بغزة التي كوّنت فيها معنى جديدًا للحياة والمقاومة. ولدت طفلتها في الحرب، وولدت معها هي من جديد، أقوى وأكثر إيمانًا بأن الإنسان أقوى من الدمار.

