سندس الفيومي.. التعليم يُسكر شعور الغربة والنزوح
بدأت رحلتي في تعليم اللغة الإنجليزية مع المنتدى الاجتماعي التنموي في أغسطس الماضي. نزحت من مدينة غزة، وأقيم حاليًا في محافظة دير البلح. منذ أن غادرت غزة في نوفمبر الماضي، رافقني شعور لا يفارقني بالغربة، وكأنني أعيش في مكان لا يمت لي بصلة. ورغم هذا الاغتراب الذي عصف بي، وجدت العزاء الوحيد في التعليم، وفي وجودي اليومي بين الأطفال الذين أتعلم منهم بقدر ما أعلمهم.
مع الأيام الأولى لافتتاح الخيام التعليمية، أقبل الطلاب مع عائلاتهم بروح من التفاؤل والشوق. على الرغم من تفاوت أعمارهم وخلفياتهم، كانوا جميعًا يبحثون عن ملاذ آمن يعيد إليهم الروتين المدرسي الذي فقدوه لقرابة العام. لقد فرض النزوح وعبء الحياة اليومية على الأطفال في غزة واقعًا صعبًا؛ حرمهم من اللعب، من التعلم، ومن الشعور بالأمان. هذه التحديات جعلتهم يتطلعون بشغف إلى أشياء بسيطة كالعودة إلى الصف المدرسي، إلى استخدام الأقلام الملونة، إلى الكتابة في دفاترهم المنمقة، إلى لقاء الأصدقاء، وحتى إلى أجواء، ولو كان هذا الصف ليس أكثر من خيمة في مخيم للنازحين.
أثناء فترة تدريبي مع المنتدى الاجتماعي التنموي، قبل أن أبدأ عملي في المساحات التعليمية، شاركت في عدة تدريبات مكثفة بإشراف خبراء تربويين وفنانين. لقد ركزت هذه التدريبات على تقديم منهج تعليمي مختلف، يعتمد على وسائل غير تقليدية تراعي احتياجات الأطفال النفسية والعاطفية. على عكس أسلوب التعليم التقليدي، كان طاقم المنتدى يفضل التعليم النشط الذي يشجع على اللعب، والمسرح، والقصص، والأشغال اليدوية باستخدام مواد مستعادة من البيئة. الهدف كان جعل عملية التعلم أكثر متعة وسلاسة، وملائمة للأطفال الذين أثقلت ضروب الحرب المتتالية كاهلهم. لقد رأيت التغيير واضحًا بعد عدة أشهر من العمل في الخيام التعليمية. الأطفال الذين بدوا في البداية مترددين وخائفين، أصبحوا يتوقون لحضور حصصهم في المساحة الآمنة، يحضرون مبكرين، ويغادرونها بوجوه مفعمة بالحماس والشوق للعودة.
ما يميز مساحات المنتدى هو خلق بيئة يشعر فيها كل طفل بأنه مسموع ومقدر. من خلال استخدام اللعب والنقاشات المفتوحة مع الطلاب حول اهتماماتهم وأحلامهم وذكرياتهم، بدأنا نرى الأطفال واليافعين يعبرون عن أنفسهم بطرق لم تكن ممكنة في ظل الأوضاع الصعبة. تفتح هذه الأنشطة نافذة على عالمهم الداخلي، عالم مليء بالألم ولكن أيضًا بالأمل. أتذكر إحدى الحصص التي خصصتها لتعلم مفردات جديدة باللغة الإنجليزية حول المهن. طلبت من كل طالب أن يتخيل نفسه في مقابلة عمل للمهنة التي يحلم بها. جاءت إجابات الطلاب متنوعة ومعبرة، وأظهرت آمالهم بمستقبل أفضل، رغم كل الظروف التي تحيط بهم. ما أثار إعجابي بشكل خاص هو رحابة طموحهم واتساع اطلاعهم وعمق تعاطفهم مع محيطهم رغم ما عايشوه من صعاب. كما بدا عمق أفكارهم، وحسهم الوطني العالي، وشغفهم بالسلام العادل جليا فيما عبروا عنه من آمال.
الطفل الذي كان كل ما يحمله في يومه العادي حقيبة مدرسية، أصبح الآن يحمل على كاهله فقدان الأحبة، وألم النزوح، ووداعًا متكررًا لكل ما ألفه. الأطفال بحاجة إلى أن يعيشوا طفولتهم بكل عفويتها: أن يكتبوا ويخطئوا، أن يرسموا ويتجاوزوا حدود الورقة، أن يختبروا ويتعلموا من تجاربهم. الطفولة هي مساحة للتجربة، والخطأ جزء منها، وهو رفيق دائم في رحلتهم. بالنسبة لي، أهم حق نسعى لتوفيره للأطفال في هذه المساحات التعليمية هو حق الشعور بالأمان، أن يشعروا بأنهم محميون، مسموعون، ومقدَّرون.
الطفل الذي يتعلم الأبجدية اليوم، هو نفسه الذي شاهد كيف انهارت أبجديات طفولته أمام عينيه؛ منزل قد دُمِّر، عائلة قد تشتت، ذكريات قد طُمست تحت أنقاض الحروب. ومع ذلك، ما زالت أرواحهم تقاوم، تبحث عن النور في الظلام، عن حلم يرفض أن يندثر رغم كل ما مروا به. لقد منحتني براءة الأطفال وإصرارهم قوة كبيرة، وأملًا لا ينطفئ بأن الغد، مهما كان بعيدًا، سيحمل نورًا جديدًا، وأحلامًا تأبى أن تطمر تحت الركام.