غنَى ضاهر.. حين قاومت الحرب بالعلم

من طابور المدرسة إلى طريق النزوح، هكذا تغيّرت حياة الطفلة غنَى علاء ضاهر (11 عامًا)، التي كانت تعيش في حي الشيخ زايد شمال غزة، في بيت كان عالمها الآمن، تُجهز في كل صباح حقيبتها وتذهب إلى مدرستها برفقة صديقاتها.

ورغم 21 مرة نزحت فيها عائلتها من بيتٍ إلى آخر، عادت الطفلة غنَى ضاهر إلى دراستها أخيرًا، تحمل حقيبتها الصغيرة وتجلس داخل خيمةٍ هي المساحة التعليمية الآمنة التي أنشأها المنتدى الاجتماعي التنموي، لتكون “فصلًا مؤقتًا” في أحد مراكز النزوح جنوب غزة.

تكتب بحروفٍ مرتجفة، لكنها تقول بابتسامةٍ ثابتة: “كنت أظن أني لن أتعلم بعد اليوم، لكني عدت”.

وراء هذه العودة الصغيرة قصةٌ طويلة من الفقد والتنقل والبحث عن أمانٍ مفقود. فمنذ اندلاع الحرب على غزة، تنقلت عائلة غنَى تحت القصف تبحث عن مأوى، وتحاول أن تحفظ ما تبقى من حياةٍ طبيعية لطفلةٍ حلمها الوحيد أن تعود إلى المدرسة.

قصة الفقد الطويلة

تقول الطفلة إنها كانت تحب مدرستها كثيرًا، وتشارك في برنامج الإذاعة المدرسي بشغف ومنافسة، تتسابق وزميلاتها في إعداده، إلى أن جاء صباح السابع من أكتوبر 2023، حيث تبدّل كل شيء.

استيقظت مبكرًا للمشاركة في الإذاعة المدرسية، سمعت أصوات الانفجارات والصواريخ من كل حدب وصوب، قال لي أبي لن يذهب أحد إلى المدرسة اليوم، جلست على أمل أن تكون مدة قليلة وأعود للانطلاق، لكنني منذ ذلك اليوم حُرمت هذه التفاصيل.

ما اخبرتنا به غنَى، احدى طالبات المساحات التعليمية

لم يدرِ أحد أن ذلك الصباح سيكون بداية حربٍ سرقت الطفولة في قطاع غزة، أجبرت الطفلة على النزوح مع عائلتها، من بيت إلى آخر، من الشرق إلى الغرب، من حي إلى آخر، ثم من الشمال إلى الجنوب حتى وصل عدد مرات نزوحهم 21 مرة.

تصف غنى النزوح: “يشعر المرء أنه ترك روحه في المكان في منزله وخرج. أنا نازحة في القطاع نفسه، لكنني لا أشعر بالراحة، أنا ابنة الشمال، لم يعد لي جيران أعرفهم ولا صديقات، غابت عني منازل حارتنا وكذلك وجه مدينتي التي حل بها الخراب نتيجة القصف الإسرائيلي”.

دمرت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منزل الطفلة تدميرًا كاملًا، لكنها لا تزال تحلم فيه، تغفو على شريط ذكريات جمعتها في كل زاوية بمنزلها ولمّات عائلتها.

تذكر أنه في إحدى مراحل النزوح، لجأت العائلة إلى المستشفى الإندونيسي الذي تعرض لاحقًا إلى حصار إسرائيلي. طوّق الاحتلال المكان ومنع الخروج منه والدخول إليه، ووسط الخوف والارتباك، كانت غنَى رغم صغرها، تملك ما لا يملكه كثيرين غيرها وهو القدرة على التحدث بعدة لغات.

بشجاعةٍ غير معتادة لطفلة في عمرها، وقفت أمام الجنود الإسرائيليين تتحدث معهم بالإنجليزية، تشرح لهم أن في المستشفى أطفالًا ونساء وجرحى.

تقول والدتها بفخر: “كانت غنَى صوتنا، تحكي بهدوء وذكاء، وتترجم خوفنا إلى كلماتٍ يفهمها الآخرون”، ومنذ تلك اللحظة، لم تعد غنَى مجرّد طفلة نازحة؛ صارت رمزًا صغيرًا للشجاعة في بيتها ومخيمها.

وهنا لا بد من الإشارة بأن الحرب تركت في حياتها فجوةً كبيرة، تحديدًا خلال عامين كاملين بلا دراسة، لم يكن الإنترنت متاحًا للتواصل في التعليم الإلكتروني، ولا مدارس تستقبل الطلاب، لا معلمات ولا بيئة تساعد على التعلم.

انتظار وعطش 

تصف الطفلة تفاصيل عيشها قائلة إنه خلال عامي الإبادة، كانت ترى كتبها ولا تستطيع فتحها، كانت الدراسة حلم، حاولت التسجيل في بعض المدارس لكن الإجابة القاسية -وفق وصفها-: أهلًا بك، انتظري منا اتصالًا.

لم يرن الهاتف أبدًا، شعرت وكأن حقها في التعليم يتلاشى شيئًا فشيئًا، لكن والدتها وشقيقتها قررتا ألا تستسلما لكل الظروف التي مرّوا بها، حتى تعرفوا إلى المساحة التعليمية التابعة للمنتدى الاجتماعي التنموي، التي أنشاها في مدينة دير البلح. ذهبت الأم والعائلة للتسجيل وهي تتوقع الرفض، كما حدث مرارًا، لكن المفاجأة كانت قبولها فورًا.

 خلال فترة الهدنة، حين نزحت العائلة إلى الزوايدة وسط القطاع، بدأت أم الطفلة وشقيقتها بمساعدتها على المواصلة بالتعلم من خلال رُزَم تعليمية، تحولت الخيمة إلى صفٍ صغير، والأوراق إلى نوافذ أمل.

حسّيت حالي كأني رجعت لمدرستي القديمة، وكأن الحياة عادت لي مجددًا بعدما ظننت أنني فقدت كل فرص التعليم والدراسة تحت الظروف القاسية جراء الحرب.

تصف الطفلة شعورها عند تسجيلها في مساحة المنتدى

بيئة تعليميّة دافئة

في المساحة التعليمية، وجدت بيئة تشبهها دافئة، بسيطة، مليئة بالحب، المعلمات كنّ قريبات من الطالبات، يشرحن الدروس بأسلوب سهل، وغنَى كانت تعود إلى بيتها وهي تفهم كل شيء دون مراجعة، ببطء، استعادت ثقتها بنفسها -وفق تعبيرها-.

عند بداية العودة للدراسة كانت تظن الطفلة أنها نسيت كل شيء، لكن عند مراجعتها الدروس مع المعلمات، أكدت “شعرت أن عقلي يلتقط المعلومات وكأنه عطش لها، تذكرت الكثير مما فاتني سابقًا وكنت أظن أني نسيته، عدت لروتيني المفضل بالحياة، أجهز نفسي يوميًا وأذهب للدراسة، حينها تذكرت فعلًا أنني طالبة”.

تؤكد الطفلة وعائلتها أن المساحة التعليمية لم تكن مجرد صفوفٍ للدراسة، بل كانت مساحة حياة أعادت إليها الأمان الذي سرقته الحرب منها، معتبرة أن عودتها إلى التعليم قصة نجاحها الأولى تحت كل الظروف الاستثنائية التي عاشتها.

تحلم غنَى اليوم بأن تكمل تعليمها لتصبح مترجمة، حلمٌ وُلد من قلب المأساة التي جعلتها تتحدث بلغاتٍ كثيرة وتفهم معنى التواصل والإنسانية.

غنى لا تعتبر نفسها مجرد طفلةٍ عادت إلى الدراسة؛ بل قصة عن إصرارٍ صغيرٍ يشبه معجزة، ترجمتها طفلة فقدت بيتها وأصدقاءها وحقها في التعليم، لكنها وجدت في كل ذلك طريقًا نحو ذاتها، نحو الأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *