نور البيطار.. ولادة من جديد في “يلا تشينج”

في أحد مخيمات النزوح في وسط قطاع غزّة، وبين صفوف الخيام المتلاصقة، تقف نور البيطار، الشابة التي لم يتجاوز عمرها الثالثة والعشرين، بعدَ أن تخرّجت نور من تخصص الوسائط المتعددة وتطوير الويب في الجامعة الإسلامية قبل أيام قليلة فقط من النزوح الثاني، وكأن العالم أعطاها شهادة تخرّج ثم أخذ منها كل ما تعرفه عن الحياة في لحظة واحدة.

رغم خلفيتها التكنولوجية، لطالما كانت نور ابنة الميدان، وهي تقول عن نفسها إنها “شخصً اجتماعي جدًا”، لا تهدأ دون أن تكون وسط الناس، تتعرف إليهم وتشاركهم وتسمع قصصهم.

الإنسان.. العالم الأوّل 

منذ عام 2017 كانت منغمسة في العمل المجتمعي، متحدّيةً كل من قال لها إن تخصصها سيجعلها منعزلة خلف شاشة.. كانت تعرف في داخلها أن الإنسان هو عالمها الأول، وأن المجتمع هو المكان الذي تتنفس فيه.

مع بداية مشروع تخرجها.. انغمست لساعات طويلة خلف حاسوبها المحمول، تُصمِّم وتبرمج وتبني نماذج ثلاثية الأبعاد، لكن شيئًا ما كان ينقصها. تقول وهي تضحك على تلك الأيام: “حسيت إن البرامج مش فاهمة مشاعري.. ولا فاهمة طموحاتي”.

بدأت تشعر بأن المسافة بينها وبين ذاتها تكبر، وبأن نور التي تعرفها، المتفاعلة، المبادرِة، والقريبة من الناس، بدأت تبهت.. حتى جاء اليوم الذي كانت تتصفّح فيه “إنستغرام”، فرأت إعلانًا عن إطلاق الموسم السادس من برنامج “يلا تشينج” للشباب في غزّة والضفة.

لم تكن تعرف الكثير عن البرنامج، لكنها دخلت الصفحة، ورأت أن كل ما فيها ينبض بالعمل المجتمعي، فشعرت بشيء يوقظها من جديد.. تقول: “قلت يمكن هنا ألاقي نور المجتمعية.. نور اللي بتحب الميدان وبتحب الناس”.

قدمت على الفور، رغم ضعف الإنترنت الذي اضطرها للخروج إلى مساحة عمل لتعبئة الطلب.. لكنَ تصوير المقطع التعريفي عن نفسها في التسجيل، كان مهمةً صعبه تكرهها.. تقول ضاحكةً: “عدت الفيديو 15 مرة.. آخر فيديو حسيت حالي اندمجت وصرت أحكي بقلبي”.

بعد فترة من الانتظار، وصلها القبول لتتحوّلأ إلى مرحلة المقابلات، ومع الظروف التي كانت تعيشها، اختارت أن تخوضها إلكترونيًا.. في المُقابلة تحدّثت بثقة هادئة عن خبراتها وأفكارها، وبعد أسبوعٍ واحد، جاءتها الرسالة الموعودة: “مبروك، تم قبولك من بين أكثر من 800 متقدم.. ضمن 60 مشاركًا فقط”.

كانت تلك الرسالة بمثابة عودة الروح التي شعرت بسببها، نور أن جزءًا منها استيقظ بعد شهور من الخمول والضغط والخوف.

مساحة تصنع المعنى في قلب الخيام

دخلت نور “يلا تشينج“، وبدأ التدريب ضمن البرنامج الطويل الذي ينفّذه المنتدى الاجتماعي التنموي بالشراكة مع جمعية المساعدات الشعبية النرويجية (NPA)، ويهدف إلى تمكين الشباب الفلسطيني لقيادة التعافي والتنمية.

ورغم أنه برنامج تدريبي، إلا أنه بالنسبة لنور كان فسحة تنفّس. كانت تقول لأهلها كل يوم بعد العودة: “أنا طالعة آخذ طاقة يوم كامل.. كإنه بطلعوني من غزة لساعتين”. وجدت في القاعة شبابًا يشبهونها.. 60 حكاية و60 شغفًا مختلفًا، شعرت معهم أن العالم لم ينته.

أكثر ما هزّها كان “التصميم المتمحور حول الإنسان“، الذي قدّمتهُ المُدرّبة هديل أبو زيد. دخلت الجلسة وهي لا تعرف معناه، وخرجت وهي ترى البشر بطريقة جديدة.. تقول: “صار عندي بُعد ثالث في التفكير. صرت أشوف الإنسان وأفهم مشكلته حتى من مشيته، من تعابير وجهه”.

تعلّمت كيف تحلل الاحتياجات، كيف تستمع، وكيف تفهم المشكلة من الناس أنفسهم قبل أن تفكر في الحل. ثم جاء محور المناصرة والضغط الاجتماعي، الذي كان عالمًا مجهولًا بالنسبة لها، لتدرك فجأة أن المبادرة ليست فكرة فقط، بل صوت وتأثير وتغيير حقيقي.

أما التواصل الفعّال، فقد كان بوابتها لاكتشاف قدراتها. تقول: “تعرفت على 60 شخصية، و60 مهارة، و60 قصة.. وهذا لحاله جامعة”.

عين ترى الإنسان قبل كل شيء

منذ بدأت التدريب، قالت نور إنها أصبحت تمشي في الطريق بشكل مختلف.. لم تعد تنظر للناس مرورًا عابرًا، بل كأن كل شخص يحمل قصة تنتظر من يسمعها. كانت تسأل نفسها باستمرار: “لو ساعدنا هاد الشخص.. شو ممكن يتغير في يومه؟ في حياته؟ في المخيم كله؟”.

رأت رجلًا يشتكي لجاره أن الماء لم يكفه لعائلته، فبدأت تفكر: “طب لو بنحل مشكلة المي.. مش بنتج مجتمع أحسن؟ مش بنعيد الحياة للناس؟”. وهكذا، كان البرنامج يعيد تشكيل وعيها، وينمي قدرتها على رؤية الإنسان من الداخل، لا من مظاهر التعب وحدها.

تتحدث نور عن طاقم “يلا تشينج” بامتنان واضح، وتقول إنهم خلقوا للشباب مساحة مضيئة في أحلك ظروف النزوح. وتقول عن البرنامج: “يلا تشينج كان ولادة جديدة لي.. ولادة رغم الإبادة”.

أمّا عن رسالتها للشباب، فتختصرها نور بجملة واحدة: “ابحثوا عن مكانكم الصح.. لأن الإنسان إذا لم يكُن في مكانه الصحيح، يُهدَم”.

تطالبهم بأن يستثمروا الإنترنت للتعلم والتطوير، وأن يتابعوا الصفحات التي تمنحهم فرصًا، مثلما فعلت حين تابعت “يلا تشينج” ووجدت نفسها فيه.

“أنا من الناس وللناس.. لأني عايشة نفس القصة ونفس الألم”، تقول نور هذه الكلمات وتعرف تمامًا معنى أن يعيش الإنسان النزوح والجوع والخوف، ولذلك تشعر أنها قادرة على لمس آلام غيرها، وعلى تحويل معاناتها إلى طاقة لإنقاذ غيرها.

ترى أن ظروفها “أفضل من كثير غيرها”، ولهذا تعتبر أن واجبها أن تمد يدها إلى من هم أشد ضعفًا.. وتعتقدُ أنّ في وجهها، وسط التعب والغبار، ظل هناك ضوء يشبه اسمها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *